شعرت بالصدمة عندما دخلت زميلتي في المدرسة إلى الإدارة وبصحبتها والدة إحدى تلميذاتها الصغيرات, حدثتنا الأم وقتها عن محاولات تلميذ في الصف الأول للتحرش بابنتها التي تجلس في مقعد قريب منه, ولم تكن التحرشات في البداية تتعدى الكلمات ثم تطور الأمر إلى سلوك لم تتقبله الصغيرة, فما كان منها إلا أن أخبرت والدتها التي حضرت مسرعة إلى المدرسة لتحمي ابنتها من هذا الوحش البشري الصغير.

وكانت المفاجأة الكبرى للجميع عندما حضر الطفل المتهم, فكان أصغر وأكثر ضآلة وبراءة من أن نلقي عليه تهمة بهذا الحجم, ولكنها كانت ملتصقة به تمام الالتصاق, وتبين لنا جميعا صدق الفتاة عندما لم ينكر الفتى أيًّا من الاتهامات، بل اكتفى بخفض رأسه استكمالا لسمته ومظهره البريء.

وبين التهديد والوعيد وبين الترغيب والترهيب – من مديرة المدرسة ومن تواجد حينها من المعلمات- نطق الصغير بما أدمى قلوبنا جميعا فقال:

– إنه أخي الكبير.

وحضرت الوالدة وراحت تنتحب وتنشج وتضرب نفسها بعد أن نال منها ابنها بعض الصفعات, ثم أجهشت بالبكاء بشدة وبكينا جميعا معها.

كانت تقول وتكرر قولها: “وهل يأكل الإنسان لحمه!؟ كيف يفعل هذا بأخيه؟”

ثم سألت طفلها بشفقة: “لِمَ لمْ تخبرني يا ولدي؟”

فأجاب باكيا: “كنت أقول لك إن بطني يؤلمني وأنت لم تعرفي”

“متى كان يفعل؟”

“عندما تكونين خارج المنزل.”

غيرتني تلك القصة, كنت أذرف دمعا أودع به تلك الوالدة وهي تلملم جرحا لن يندمل, وتسير بفرخها النازف نحو عش لم يجد فيه الأمان, وأودع معها ثقتي بأيٍّ كان.

لم أصبح بعدها معقدة، بل بت كثيرة الحذر والحرص, وباتت عيني ترى أبعد من ستار الأمور العادية, ووجدت للأم مهمة أخرى لا تقل أهمية عن تربية أطفالها ألا وهي حمايتهم.

كيف أحميهم؟

يفرض هذا السؤال نفسه:

– التقوى أولا:

يعرف كل مسلم أن من يتقي الله يحفظه, وأن هناك قصاصا عادلا لمن يعتدي على حرمات غيره, وأن من أسهل الطرق وأيسرها لتضمن حماية الله لذريتك أن تبتعد أنت عن حرمات الآخرين.

أحدهم كان قد غرر بابنة جيرانه وقام بالاعتداء عليها في منزلها عندما قفز نحو حديقة منزلها في غياب أهلها, وعملت والدتها على تزويجها له لتنهي الفضيحة وخوفا على الصبية من إخوتها لو علموا, وبالفعل تم الزواج وعاشت معه تلك العيشة المرة وتحملت صابرة سوء طبعه، واعتادت أن يعود كل يوم للمنزل وقد شرب الخمر وفقد عقله, وعانت كثيرا من غيرته وكانت مخلصة عفيفة, وعلمت أولادها وأحسنت عشرتهم حتى جاء ذلك اليوم الذي دخل فيه منزله وقد أطاح الخمر بعقله فقام باغتصاب ابنته، وكان هذا هو القصاص، أعاذنا الله والمسلمين منه.

والأمر الثاني والمهم أيضا هو أن يستودع المؤمن أولاده الرحمن ويكون هذا:

* بالدعاء أولا.

* وقراءة أذكار الصباح والمساء.

وتعليمهم هذه الأذكار مع كل ما يستطيعه مما ورد في سنة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم منها.

– التربية أولا وأخيرا:

كثيرا ما أتألم لرؤيتي أطفالا يتمتعون بكل المحاسن التي يتمناها المرء لأولاده كالوسامة والأناقة والنظافة والذكاء وحسن الدرس, ويفتقدون أدنى درجات التربية الدينية, وهم بالتالي لا يبالون بستر عورة أو حفظ لسان أو بانتهاك حرمة أو تضييع أمانة، وتعجُّ مدارسنا وشوارعنا بنماذج من هؤلاء, وهنا لنا وقفة:

“فأين الأهل؟ ولماذا ينجبون؟ وهل يأملون أن يأتي من يعلم أطفالهم دينهم في الشارع مثلا أوفي المدرسة؟”.

كان إبراهيم تلميذا في الصف الثالث في مدرستنا, وكان يتيماً ومهملا لدروسه ونظافته وأناقته، وكان يؤذي أصدقاءه ويعاملهم بعنف, وكنت تستطيع أن ترى مسحة طفولة تطل من ملامحه الدقيقة ولا تملك إزاءها إلا الشفقة عليه, وقد وصلت عدة شكاوى على صغيرنا تخبرنا بأنه يقوم ببعض التصرفات المنافية للأدب أمام رفاقه, وعلمنا منه بعدها أنه يصاحب بعض الأولاد في الشارع ويتعلم منهم ما يفعله في المدرسة, وقد حاولت المديرة احتواء الصغير, وقامت بدعوة والدته وتحذيرها من تركها له في الشارع طويلا, ومن تركها للمنزل لساعات طويلة تقضيها مع جاراتها كل يوم, وكانت حجة الأم أنها تعمل مع جاراتها في إعداد وجبات طعام جاهزة, ولكن الجميع كانوا متأكدين من أنها تستطيع العمل في منزلها ولكنهن يجتمعن للتسلية, وتبرعت إحدى الزميلات بتدريس إبراهيم في المنزل, وبدأت النتائج تظهر في علاماته بسرعة, وتغير تعامله مع الزملاء وظهرت أخيرا ابتسامته المشرقة, ولكن الحال لم يستمر طويلا, فقد كانت تربية الصغير وطبيعته لا تتناسب مع منزل تلك المدرِّسة المنضبط الملتزم النظيف الهادئ, ففتر حماسها وطويت الفكرة, وعاد اليتيم إلى الشارع وعادت أمه إلى بيوت جاراتها لتعمل وتتسلى.

أقولها وبكل ثقة:

إن لم تكن التربية قادمة من المنزل فلن تأتي من مكان آخر, وقد يصقل المرء خارج منزله ولكنه سيكون مصحوبا بالحرج والألم, ولن تكون التربية عذبة نقية محببة كما لو جاءت منذ الصغر ورضعها الطفل مع حليب الأم وطعامها الهانئ الآمن.

حسن الصلة:

قالت إحدى المشاركات في موضوع طرحه موقع البي بي سي:

“كنت في التاسعة من عمري حينما حدث لي ما حدث. فقد تحرش مدرسي بي جنسيا، وكان يتحرش بكل فتاة في القسم. وكان يختار البنات الخجولات وأنا كنت منهن، كما أن ابن عمي تحرش بي، ولم أستطع أن أقول شيئا لعائلتي. لو أن المدرس وابن عمي علما بأنني كنت سأخبر أهلي لما ارتكبا فعلتهما، ولكنهما يعلمان بأن هذه الموضوعات لا تحكى للعائلة. نصيحتي إلى الآباء: لا تتركوا أبناءكم وبناتكم مع أي غريب، وعليكم أن تسألوهم عن كل شيء مما يقع في المدرسة وغيرها من الأماكن”. مها – أمريكا

ومن هنا نفهم ضرورة التواصل بين الأهل والأولاد، وضرورة أن يكون الأهل هم الملاذ والملجأ الأمين للطفل مهما كان ما يحصل معه.

الحذر والتحذير:

لم كن أتخيل يوما أن أكون شاهدة على حادثة تحرش ربما كانت ستتطور إلى اعتداء لو لم أكن هناك, فقد كنت في المدرسة وكان هذا قبل سنوات، وأثناء الدرس أرسل مدير المدرسة طالبا إحدى الطالبات لتتوجه نحو الإدارة, وكنت أرى صورا تثير الريبة في طريقة تعامل هذا المدير مع الطالبات، وأتعجب من وجودهن المستمر حوله وفي إدارته, وكانت نورا تشبه الشمس بجمالها وبراءة محياها, وعادت بغير الوجه الذي ذهبت به، وكان لونها ممتقعا, ناديتها نحوي وسألتها: “هل قال لك شيئا أخافك يا نورا ..لا تخافي يا حبيبتي فأنا أعرفه ..وسيكون الأمر سراً بيننا”

فأجابت وهي ما تزال مذهولة: “لقد أخبرني بأنه يحبني.. وأن هذا سر.. ولا يجب أن أقول لأحد.. وأنه يحب أن أتي إلى إدارته كل يوم”

واحترت في أمري بين طفلة تكاد تسلب براءتها, وذئب لا يرحم, ويتمتع بحماية الجميع, وقلت لها يومها:

“ألست تخبرين والدتك بكل ما يحصل معك”

فقالت: “بلى”

قلت: “فعليك أن تخبريها بكل ما جرى يا صغيرتي وأخشى أن يصيبك مكروه لو بقيت صامتة”

واتصلت بقريبة لي تعمل في دائرة الرقابة والتفتيش، وأخبرتها بما يحصل، فحذرتني من تقديم شكوى ضده لو لم يجتمع معي عدد من الشهود، وقالت مؤكدة: “لا تخوضي معركة خاسرة فالقانون يحميه والشهود غالبا ما يخلفون وعودهم” وكان هذا رأي كل من استشرته.

أما نورا فقد نقلها والدها من المدرسة ليحميها مؤثرا السلامة على إدخال طفلته في هكذا قضية بعد أن أبدى امتنانه لي, وأما أنا بدأت أعلم صغيراتي الحذر مما يريب، وانتقلت من المدرسة بعد أن تقاعد ذلك المدير منها.

وقد رفضت صديقتي يوما طلب طفلتها أن تنام في بيت عمها وقالت: “لا” بلهجة حاسمة فابتعدت الصغيرة مكسورة الخاطر, وتعجبتُ وقتها فقالت رداً على تساؤلي:

“الذي أعرفه أن ابنتي أمانة ومن ثمَّ فَعَليَّ حفظها, والبنت عندي لا تنام إلا في بيت أبيها أوفي بيت زوجها بعده وهذا واجبي سواء رضيَت أم لم ترض”.

لقد كانت في الحقيقة أما رائعة، فرغم أننا لم نكن نرى لها عملا في الدعوة خارج منزلها, ولكنها كانت تعرف كيف تحفظ البنات وتعلمهم واجباتهم الدينية والستر والحذر الشديد, ولا أذكر أنني رأيت عورة في بيتها – حتى لطفل صغير- مع شدة ولعها بالأناقة والموضة.. لقد كنت أتعجب وأُعجب بما أرى.

والستر في المنزل له أثره العظيم، فلا بد من تعويد الفتيات على الستر وإخفاء العورات والمفاتن عن إخوتهن وآبائهن وكل قريب، فهذا أدعى لحماية البنت وحماية الآخرين من فتنتها، مع تعاهد المحطات الفضائية والشبكة العنكبوتية بالتنظيف وإزالة كل ما يثير الشهوة.

تقول مشاركة في موقع البي بي سي:

“هذا الموضوع لمس جرحا عميقا جداً داخل نفسي، لأنني أنا شخصيا تعرضت إلى عدة تحرشات جنسية من كثير من الأقارب ومن أهل المنزل الذي كان أهلي يرسلونني إليه وأنا صغيرة، وهو كان مثل الحضانة، حيث كان عندهم شباب داخل المنزل وجميعهم في سن المراهقة، وكانوا جميعا يتحرشون بي من دون أن يعرف كل واحد منهم أن الآخر يتحرش بي أيضاً، لدرجة أن زوج السيدة التي كنا نجلس في منزلها كان يتحرش بي أيضاً، وهذا أصابني بعقدة كبيرة في حياتي، وجعلني أشك في كل شخص ولا أعطي لأي أحد الأمان، حتى إني لا أتذكر إن كنت ما زلت عذراء أم لا، لأني كنت وقتها صغيرة جدا في السن، وهذا ما يشكل بالنسبة لي الرعب الكبير لأني حالياً مخطوبة وعلى وشك الزواج، ولا أعرف ماذا أفعل لأنني منذ البداية وحتى الآن لا أجرؤ أن أتحدث عن هذا الموضوع مع أي أحد.” مها – القاهرة

فأمر الثقة في المحيطين مهم جدا, وقد يجانب الصواب من يثق بغير نفسه, وينبغي للأهل وبخاصة الوالدة أن تصاحب الشك فقط وتجعله صديقها الدائم حتى تصل بمن تتولى رعايتهم إلى بر الأمان, وتضمن بهذا لها ولهم السعادة والهناء.

– تأمين احتياجاتهم:

في إحدى القصص المؤلمة كان ابن الجيران يغري الصغير بأن يسمح له بحمل طيوره التي يربيها على السطح, وفي بعضها كان الإغراء يتم بمشوار ولعبة أو بقطعة حلوى, وفي المقابل على الأهل سد ما أمكنهم من احتياجات أطفالهم المادية والمعنوية, والتحذير والسؤال عن مصدر كل ما قد يجلبه الطفل أو يتواجد معه من أغراض أو نقود أو طعام, مع التحذير أيضا من الغرباء وتعويدهم العزة في رفض العطايا, والانفتاح مع الأهل في كل ما قد يهدى أو يعطى إليهم، فقد تم اكتشاف الكثير من الجرائم عندما أثارت قطع حلوى كثيرة أو نقود غير معروفة المصدر ريبة أم أو مدرس.

كنت أقول لطفلتي عندما يعطيها أحدهم شيئا: “لا بد من أن تخبريني لنقدم له هدية بالمقابل، وكنت أحصل منها على تقارير مفصلة”.

وفي النهاية لا بد من أن نعلم أننا وحدنا من سيحمل الوزر والهم لو ابتلينا بالمصائب بسبب تربية مفقودة أو واجب استثقلنا القيام به وفات أوانه، فلا بد من التشمير والتنبه والعمل الجاد.

مما نشرته في موقع رسالة الإسلام

راما و حكاية البيت السحري

قَبل موعد النوم بقليل, و بعدَ أن تناولت راما عشاءها, و قامت بتنظيف أسنانها, و قبَّلت والديها ثمَّ أغلقت باب غرفتها و توجَّهت نحو سريرها بعد أن أطفأت مصباح الغرفة الكبير, و اكتفت بإضاءة المصباح الصغير قرب سريرها, و بدأت بقراءة قصة ( هانسل و غريتل) و هي مستمتعة.


كانت هذه القصة تحكي عن ولدين صغيرين تركهما والدهما في الغابة تحت إلحاح زوجته الجديدة الشريرة, و بعد أن تاه الصغيران في الغابة عثرا فيها على منزل مصنوع من الحلوى و الشوكولاتة و الكعك اللذيذ, و كان هذا المنزل فخاً نصبته الساحرة لتصطاد به الأولاد التائهين في الغابة.

لم يحتمل قلب راما رؤية الصغيرين وحدهما, و خافت عليهما أكثر عندما اقتربا من منزل الساحرة, فقررت أن تقفز بسرعة داخل القصة, و تحذر الولدين من هذا الفخ, بعد أن تقدم لهما قطعا من حلوى المنزل قبل أن تصل الساحرة إليه.

قفزت داخل القصة بخفة غير مهتمة بالمثل القائل : ” أن من تدخل في ما لا يعنيه لقي ما لا يرضيه ” .
و حملت بعض قطع الحلوى التي اختارتها من المنزل بعناية , ثمَّ ذهبت مسرعة نحو الصفحة السابقة, و قدمت الحلوى ل(هانسل و غريتل), و جلست تخبرهما عن سر بيت الساحرة, و تحذرهما منه , ثم عادت إلى غرفتها سعيدة بعد أن احتفظت لنفسها ببعض القطع اللذيذة, و أكلتها ثم نسيت أن تنظف أسنانها قبل أن تغط في نوم عميق .

في الغابة غضبت الساحرة كثيرا عندما تأخر وصول (هانسل و غريتل) إلى منزلها, ازداد غيظها بعد أن أخبرها الغراب الأسود بما فعلته راما, فقررت أن تركب مكنستها و تبحث عن راما لتقوم بمعاقبتها .

و استطاعت الساحرة أن تجد راما بسهولة فقد كانت رائحة الحلوى تفوح من فمها بقوة.
و في غرفتها صرخت الساحرة بصوتها الأجش قائلة :

– أيتها الفتاة الفضولية .. لقد ابتعد الولدان عن بيتي الجميل .. و لم يعد هناك قصة يستطيع الأولاد قراءتها بمتعة.. لقد دمرت القصة .

قالت راما بخوف :

– لا تقلقي أيتها الساحرة, سأصلح الأمر و سأقنع( هانسل و غريتل) بالعودة إلى بيتك .

هدأت الساحرة قليلا و قالت :

– لا بأس إن كنت ستفعلين , و لا تنسي أن تعيدي لمنزلي قطع الحلوى الناقصة أيضا.

كانت راما متعبة و هي تقنع هانسل و غريتل أن وصولهما إلى بيت الساحرة سيجعل قصتهما أكثر جمالا و متعة, و لكنها أخبرتهما بسر الساحرة خفية, و أخبرت غريتل أنها من سيحرق تلك الشريرة في الفرن الكبير و ينقذ الأطفال منها, ولكنها كانت حزينة أيضا و هي تشتري بكل ما معها من نقود بعض قطع الحلوى التي لن تتناول منها , بل ستلصقها ببيت الساحرة التي جلست تنتظر الأولاد من جديد.

مما نشرته في مجلة أجيال الإلكترونية
عبير النحاس

كنت قد أصبت بنوبة غضب شديد من أولادي عندما زادت مشاحناتهم في أيام العيد , و رغم أنه كان من المفروض أن تكون أيام سعادة لنا جميعا , و لكنني أعلنت يومها الخصام على الجميع بما فيهم والدهم والذي كانت تهمته أنه لم يوقف تلك المشاحنات بنظرة عتاب قاسية كما كان يفعل من قبل , و قد كانت تكفي برأيي لجعل المنزل أكثر راحة و سكينة .

و اعتزلت الجميع و غادرت نحو غرفتي و أغلقت الباب دونهم , و لم يعنيني حزنهم العميق أبدا , فقد كانت ثورة الغضب في أوجها آنذاك .

و هناك بدأ الندم و الحزن يتسرب نحوي و يعلو منسوبه في قلبي , و بدأت مشاعر الإشفاق و الحنان تغزو المكان و تشدني رحمتي بهم نحوهم , فقد كانت مشاحناتهم كما هي العادة لا تتعدى ثوانيها و يعودون بعدها أصدقاء أحبة , و كنت من قبل أبتسم لرؤيتهم يتعاركون و أقول في نفسي ليتعلموا هذا الفن هنا في المنزل و ليخرجوا بعدها لمواجهة الحياة أشداء , و لم يزد الأولاد عن هذا في العيد .. فما الذي دفعني لهذا الغضب ؟!

كنت أدرك أنها أعصابي أنا التي باتت مشدودة و أنني افتقدت الكثير من مرونتي في التعامل معهم في هذه الأيام , و قد باتت أقل الأعمال و الأقوال تغضبني .

و قدَّرت أن السبب في هذا يعود لفقداني لتلك الساعة التي كنت أقضيها بمفردي و مع نفسي فقط بعد أن ينام الأولاد , و قبل أن يصل والدهم مساءا, و قد كنت أحرص على تلك الساعة فأجدني أشحن بها طاقاتي و أقوم بترتيب أولوياتي و أراجع و أحاسب نفسي و أتدارك مواضع التقصير في يومي و ليلتي و كنت أناجي فيها خالقي و أقرأ بعض القرآن أبتغي به رضا الله عني .

و لكن في أيام العيد كنا نتواجد أغلب الأوقات خارج المنزل , وكان الأولاد يرفضون الذهاب نحو غرفهم مبكرين لأنها أيام عطلة ,و لهذا فقد اختفت ساعتي و ضاعت في زحمة الزيارات و السهرات و اللهو , فكان أن أرهقت و لم أجد ما أستعيد به شعوري بنفسي و أجدد به طاقاتي .

و أدركت قيمة تلك الساعة و ما كانت تمنحني إياه من هدوء و طمأنينة و استرخاء و قدرة على تحمل الضغوط اليومية,

و كان أن فتحت باب غرفتي و جلست بينهم مبتسمة أستمتع بالعصير الطازج , و قد كان شرطي لقبول الصلح معهم أن يتركوني لوحدي ساعة في اليوم , و لم أكن شديدة الطمع فقد كنت أستيقظ مبكرة قبل الجميع عندما لا تكون الظروف مواتية للحصول على ساعتي في المساء , و قد فهمت و فهم الجميع أنها ساعتي الحبيبة و التي تجعل بقية الساعات أجمل .

فحريا بك أيتها الأم و الزوجة و الفتاة أن تكون لك مع نفسك ساعة , تخططين و تتدارسين فيها شؤون حياتك و تستعيدين بها قدرتك على التحمل, و ستكون ساعة السعادة لو استمرت و كانت ساعة حساب تجددين فيها علاقتك مع الله تعالى و تبنين بها دنياك و آخرتك فكم نحتاج للسفر عبر أروقة نفوسنا لنكتشفها و نعيش معها و نحاسبها و نحبها أيضا .

عبير النحاس

اعتادت ابنتي الصغرى- عندما كانت في الصف الأول – أن تجيب على سؤالنا لها عن مهنة المستقبل بقولها :

– سأكون معلمة رسم .

و كنت أدرك وقتها أن هناك علاقة جميلة تربطها بمدرسة الرسم في مدرستها , وكنت أرى أثر هذا الوداد في عنايتها بمادة الرسم و برغبتها في انجاز كل الرسوم المطلوبة منها مع ما تزين به دفترها من صور و شهادات امتياز تتحفها بها مُدرِّستها بين الحين و الحين .

و تغيَّر الحال .. و تبدَّل الجواب عندما انتقلت ابنتي من مَدرستِها إلى مَدرسة جديدة , و هناك كانت مُدرِّسة اللغة الإنكليزية هي المُدرِّسة المفضَّلة لديها و تبدَّلت رغبة الصغيرة في تدريس مادة الرسم, و انتقلت إلى الرغبة تدريس مادة اللغة الإنكليزية .

لم يكن ليخفى عليَّ أن تلك المحبة و الرغبة في التقليد لدى صغيرتي كان سببها الأول هو إعجابها بأناقة و لطيف شكل مُدرِّستيها ثم بتلك المعاملة الراقية التي عاملتها بها كلتا المُدرِّستين , و بالتالي انعكس هذا الإعجاب على قلب الصغيرة فأضحى حباً و ظهر هذا الحب بصور شتى منها اهتمام.. و منها محاكاة.. و منها محاولات الإرضاء ..و أهمها الرغبة في السير على ذات الدرب .

بدا الاكتشاف مؤثرا , فقد كان مظهر المعلمتين اللطيف و معاملتهما الراقية للصغيرة كافيان لجعلها تهتم بهما و بمادتيهما بل و ترغب في تقليدهما عندما تكبر .

و لا يخفى علينا ما للسمت الهادئ و الأسلوب الرصين من أثر يختلف بالطبع عن أسلوب الصراخ و العصبية و التشنج , و كذلك التقدير و الاحترام للآخرين و جعلهم يشعرون بقيمتهم و أهميتهم .

عندما أرسلت طفلي للمسجد و هو صغير ليحفظ القرآن هناك كان المُدرِّس يبيح لنفسه ضرب الأولاد ,و لا تسأل عن معاناتي بعدها لأعيد طفلي للمسجد ليحفظ القرآن الكريم مجددا فأي قدوة و أي انتفاع مع هذه الأخلاق و من داعية كان من المفترض أن يكون من أرحم الخلق بالخلق .

ما زلت أذكر أن أستاذا من أساتذتي كان قد أهداني كتابا فأحببت من بعدها الكتب و ما زلت أذكر له فضله و أذكر له كلماته الداعمة المشجعة و أدعو له بالتوفيق و السعادة , و ما زلت أذكر آية من آيات القرآن كتبتها مدرِّسة اللغة العربية على السبورة جعلتني لا أترك الصلاة بعدها أبدا , و كانت قد اختارتها بذكاء و كتبتها بحجة إعرابها و كان لها هذا الأثر على حياتي و ربما على حياة عائلتي فيما بعد .

و لعلي قدمت سراً للأمهات و للآباء و للمعلمين و للدعاة أيضا و هو :

– لنعتني بمظهرنا و لنعلن حسن الخلق رايتنا و لندفع و لنشجع و لنكن مؤثرين في كل من حولنا .

عبير النحاس

مما نشرته في موقع رسالة الإسلام